فيلسوف الدرعية ومؤسسها بين الحكمة النظرية و الحكمة العملية
أ. مصباح علي عزيبي
موضوع مقالنا اليوم عن علم من أعلامنا أدى دورًا كبيرًا في تأسيس ووحدة الصف ، ولعل نعته بالفيلسوف يعكس مدى عمق تفكيره واستشرافه للمستقبل ، وقدرته على الجمع بين الحكمة النظرية وما يتضمنها من نشر التنوير و محاربة ظلام الجهل ، وبين الحكمة العملية التي انطوت على أعمال التشييد ،و تحصين الدولة ، وأعمال تجسيد الأفكار إلى واقع معاش يحافظ على وحدة الدولة والألفة بين القبائل. ولهذا يهدف هذا المقال الى تقديم لمحة موجزة عن الأوضاع في شبة الجزيرة العربية قبل قيام الدولة السعودية الأولى، حيث عانت من الانقسامات، و غياب الوحدة، والتأخر في شتى المجالات التي شملت الجوانب العلمية وما انطوت عليه من تفشي لمظاهر الجهل والبدعة ، بالإضافة للجانب الاقتصادي وما عراه من فقر وعجز في الموارد الطبيعية و ضعف في الأداء والعائد.
وعندما نتطرق إلى الحالة السياسية في هذه الفترة التى عكست حالة الصراع والانقسام بين الإمارات
وقادتها لحالة من الضعف ، جعلها عرضة للأطماع المحتملة. وهذه الحالة من الضعف الذي صبغ الحياة السياسية امتد ليشمل أيضا الأوضاع الاقتصادية للجزيرة العربية، فهذا الوضع الصعب للجزيرة العربية وتردي الأحوال السياسية والاقتصادية أثر سلبًا على عامل الأمن الذي انعكس على التجارة،
حتى صارت أماكن التجارة عرضة للنهب والسلب مما أدي لضعف
الحركة الاقتصادية والنشاط التجاري.
أما الحالة الدينية والعلمية فقد
تأثرت بالحالة السياسية والانقسام الذي شهدته القبائل والإمارات وما صاحب ذلك من انتشار البدعة والجهل.
ما أدى لظهور بعض الممارسات والمخالفات الدينية من بدع وخرافات ، ويضاف إلى ذلك
تفشي الأمراض والأوبئة وغيرها من التحديات الكبيرة .
بدأت قصة بطلنا في شبه الجزيرة العربية في تلك الحقبة الزمنية حيث كانت البلاد ترزح تحت وطأة الاضطرابات والانقسامات والنزاعات. هناك نشأ في الدرعية وترعرع في ربوعها،وتشرب بعصارة وخبرات والده الذي ظل في ركابه ينهل من علمه، وأخذ عنه موروث الأجداد الذي كان نبراسًا يسير عليه بخطى ثابتة نحو تحقيق الهدف المنشود الذى كان حلم أجداده.
نشأ فارسًا لايشق له غبار ، و تشبع بالعلم والحكمة والخبرة في سياسة الدولة ومعرفة القبائل، والقدرة الفائقة في السيطرة على مجريات الأحداث والقضاء على الخلافات، والانقسام الذي فت في عضد شبة الجزيرة وأورثها العجز والهوان والتفكك وفي خضم الحالة السائدة تلك، ظهر الإمام
محمد بن سعود الحامل لضمير الأمة ووعيها ، وما توفر عليه من المعارف الدينية ، و القيم الأخلاقية ،
وغيرها من الصفات القيادية التي أهلته لخوض المعارك في سبيل توحيد الكيان ، ورتق النسيج الاجتماعي بين القبائل .
كل ذلك أدى إلى تنظيم الأمور بين القبائل بمعادلة تعيد التوازن بين الصفوف بهدف توحيد الكلمة والصف الذي جهد لتحقيقه ، ومن أجل إعادة هيكلة البناء للتأسيس والاستقرار وبث روح العمل الجماعي بين أفراد القبائل ، وزيادة اللحمة الاجتماعية بين هذه القبائل بفضل جهود الإمام الحثيثة على التغير والتطور .
ولهذا برزت أعماله الجليلة التي حفظها ودونها له التاريخ ومن أبرز هذه الأعمال :
*توحيد الصف وعقد التحالفات مع البلدان المجاورة.
* النهوض بأمر القبائل وتوفير كل ما يحتجونه من الحاجات الأساسية وبذل الأمن والأمان لهم وتيسر سبل العمل .
* أمن طرق التجارة والحج، ووفر سبل الحماية لحجاج بيت الله الحرام حتى لا يتعرضوا للسوء والأذى من مخاطر الطريق وخلافه.
*نشر العلم بين أبناء القبائل حتى يكون سلاحهم في القضاء على الخرافات التي انتشرت نتيجة البعد عن الفهم الصحيح للدين وما صاحب ذلك من انقسام. و لهذا تصدى لكل الدعوات الرامية لنشر الفرقة والفوضى ، وتصدى بحزم لهذا الدعوات ، التى لا تريد لهذه الدولة أو الكيان أن يتأسس على النهج القويم.
إن التاريخ يمثل سلسلة متصلة من الحلقات يرتبط فيه الماضي بالحاضر و المستقبل،
ولهذا نرى أنه من عبق الماضي تنبعث لنا رائحة ونسمات الدرعية بحلتها المعمارية المزدهرة ، وقد
وضع حجر الأساس لبناء أسوارها لتكون من الحواضر الزاهية ،
و المعالم الشامخة والصرح الصامد في وجوه الأعداء والغزاة والطامعين،
وقد تعاقبت عليه كثير من الأحداث الجسام لتقوض هذا البنيان الصاعد الذي ظل قويًا وعزيزًا أمام الطغاة والغزاة.
شاهدا على تلك الحقبة و الفترة الزمنية .
ومازال الأجيال يتوافدون من كل أنحاء البلاد ليشاهدوا هذه الحقيقة التي حافظ عليها أهلها في الاستبسال عن الدرعية وتقوية أسوارها المحصنة من المخربين، وقد أراد الله لهذا المدينة البقاء والظهور وأن تبقى خالدة تروي للأجيال وتسرد لهم صمودها ، وإلى عصرنا هذا تزار وتحكي قصة ثباتها ، وتحكي صدق رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه.
و كما حافظ عليها أئمة الدولة السعودية الأولى والثانية،
فقد تسلم الراية من بعدهم حكام المملكة العربية السعودية حتى وصلت إلى الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي أولاها من العناية و الرعاية والتجديد ، من خلال مشروع تطوير الدرعية التاريخية برئاسة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
ونالت الدرعية من الرفعة والمنعة ماهي جديرة به لتكون من الحواضر التاريخية تروي و تسرد رحلة الكفاح والصمود والبطولة والعزة والشموخ على مر العصور والدهور وتكون مضرب الأمثال في الإباء والمنعة والعزة والشموخ لكي تعيش شامخة مع تعاقب الأجيال .